حبل قصير بين الفلوجة والكرادة
حبل قصير بين الفلوجة والكرادة
العربي الجديد ...تألم العراقيون جميعاً، وشعوب كثيرة، بعد التفجير الإرهابي الكبير في حي الكرادة في بغداد فجر يوم الثالث من يوليو/ تموز الجاري، وذهب ضحيته أكثر من 400 قتيل وجريح، إضافة إلى حرق وتدمير هائل لعشرات المحلات التجارية والشقق السكنية. ولأن الانفجار يعد الأعنف منذ سنوات طويلة من حيث الخسائر البشرية ؛ ثارت ثائرة أهالي منطقة الكرادة ضد رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، الذي زار موقع الانفجار، وتعرّض موكبه للرشق بالحجارة والقنينات الفارغة والأحذية منهم، واضطر للهرب من المنطقة.
الاستغراب الذي عم الشارع العراقي، وحتى الطبقة السياسية فيه، نابع من فرضيةٍ وضعتها الحكومة العراقية، مفادها أن الفلوجة "مصنع رئيسي للتفخيخ والتفجير في العراق، وأنها رأس الأفعى وبوابة الإرهاب التي تنطلق منها الجماعات الإرهابية عبر البلاد"، حتى قال عنها بعض الساسة وقادة المليشيات الطائفية إن معركة الفلوجة ستكون فاتحة الفتوح لحل كل مشكلات العراق، ونهاية قدرات هذا التنظيم الإرهابي، فكيف يمكن تفخيخ شاحنة بهذه الكمية من المتفجرات، فيما انسحب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من هذه المدينة صوب صحراء الأنبار (!). ثم لماذا يكون الانفجار في أكثر مناطق العاصمة العراقية ازدحاماً، وربما قرباً من المنطقة الخضراء، وأيضا في أقرب أيام رمضان لعيد الفطر، بما يعنيه من حاجة للتسوق وصنع الفرحة الغائبة عن بيوت العراقيين.
كارثة الكرّادة المدوّية خرجت للجميع بنتيجة مركزيةٍ واحدةٍ، كما تحدّث كل المحللين السياسيين والأمنيين العراقيين؛ وهي ضعف الأجهزة الأمنية العراقية وهشاشتها، واختراق جهات سياسية متناقضة لها، إضافة إلى ما عزّزته توجيهات رئيس الوزراء بعد الانفجار مباشرة من انطباع بأن المشكلة "أمنية"، فقرّر سحب أجهزة كشف المتفجرات، سيئة الصيت، بعد أن جمدت قضيتها والتحقيق فيها أكثر من خمس سنوات، إضافةً إلى قرراتٍ أمنية أخرى، كما توجت هذه الفرضية باستقالة محمد الغبان، القيادي في منظمة بدر المرتبطة بإيران، من منصبه وزيراً للداخلية، والتي سبقتها زيارة قادة مليشيا عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي، وزعيم منظمة بدر، هادي العامري، موقع الانفجار، وتصريحهما أمام أهالي منطقة الكرادة إن العملية الإرهابية تؤكد ضعف الأجهزة الأمنية وعدم كفاءتها في حفظ الأمن.في المقابل، وتحديداً في الفلوجة التي كان في عملية (تحريرها) من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، دور مُرَكَّز لمليشيا الحشد الشعبي (الطائفية)، نظمت له آليات إعلامية كثيرة، ركّزت على حضور قيادات هذه المليشيات وتصريحاتهم الطائفية تجاه الفلوجة وأهلها، فيما همّش دور القوات العراقية المسلحة بصنوفها كافة، حتى بدا (الانتصار) الذي حصل في معركة الفلوجة كأنه من إرادة مليشيا الحشد ومهارتها وقدرتها، وحصرت مشاهد دخول مركز المدينة لمقاتلي هذه المليشيا، لتكتمل عملية تثبيت الصورة الذهنية لدى الشعب العراقي؛ بعد أن فشلت محاولات الجيش العراقي السابقة في إعادة السيطرة على هذا القضاء، علماً بأننا لم نشهد معارك حقيقية في الفلوجة، وأنه لم يكن لمقاتلي التنظيم وجود، لا كقتلى أو أسرى ولا كصور متلفزة، تظهرهم مقاتلين مدافعين عن أماكن وجودهم.
انتصار الفلوجة وإعلان الحشد (قراره) مشاركته في عمليات تحرير محافظة نينوى، يعنيان استمرار مسلسل تثبيت الصورة الذهنية الخاصة بتمكّن هذه المليشيا من تحقيق (النصر) على حساب إثبات ضعف وعدم (مهنية) وقدرة الجيش العراقي على الحسم في قتاله مع تنظيم الدولة، وإذا استمرّت هذه المتوالية، فإننا سنشهد انتصاراتٍ مماثلةً للحشد في عمليات تحرير الموصل، وأيضاً (تشبّحاً) لمقاتلي تنظيم الدولة، بعد أن يتم استهداف المدن والقصبات في هذه المحافظة، بكل أنواع القصف الجوي والمدفعي والصاروخي، لتدميرها وتحويلها إلى آثار مدن، وسوق مواطنيها إلى نازحين في فيافي بادية الموصل أو سواها.
الربط إذن بين معركة (تحرير) الفلوجة ونتيجتها المفروضة أمراً واقعاً بجعل كلمة قادة الحشد الشعبي (العليا) وكلمة وزارة الدفاع (السفلى)، وتثبيت فشل وزارة الداخلية، وبقية المرجعيات الأمنية في العراق، في حماية المواطن العراقي من العمليات الإرهابية، وجديدها انفجار (الكرادة)، وتقديم الحشد الشعبي نفسه بديلاً لمسك هذا الملف، بما يعنيه من برمجة إيقاف كل مسلسل التفجيرات والعنف في العاصمة العراقية خصوصاً ، هو ربط منطقي سيفضي إلى استكمال دورة تأسيس الأذرع الأمنية (الداخلية والدفاع)، لدولة (ولاية الفقيه) في العراق، وإعلانها رسمياً بعد استكمال (تحرير) الموصل.
نحن أمام عملية كبيرة ومبرمجة ذات وجهين، وصلت إلى مراحلها التنفيذية المتقدّمة، تديرها آليات عمل ولاية الفقيه، وتنفذها مليشيات جنّدت لهذه الغاية من جهة، وتشرف عليها، من الجانب العراقي، رؤوس كبيرة، كانت تحكم في ولاية رئاسية سابقة، وتتحكّم في ولاية رئاسية حالية من جهة ثانية متصلة، ضمن برنامج عمل، جعل بعض المرجعيات الشيعية واجهةً فضفاضة له للتلاعب بالعصب الطائفي لأبناء الشعب العراقي من الشيعة والسنّة على حد سواء.