التدخل العسكري الروسي في سوريا: الدواعي والتداعيات والآفاق
التدخل العسكري الروسي في سوريا: الدواعي والتداعيات والآفاق
مركز الروابط للدراسات الاستراتيجية
مقدمة
منذ مطلع شهر سبتمبر/أيلول 2015، تسارعت التقارير التي تفيد بدعم عسكري روسي للنظام السوري في حربه ضد معارضيه، وتوالت التأكيدات أيضًا حتى بلغت درجة المصداقية على لسان وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، الذي أقرَّ بوجود طائرات روسية في سوريا لكنه قلَّل من أهميتها الهجومية بقوله: “إن تقييمًا للجيش الأميركي يشير إلى أن نوع هذه الطائرات يتسق مع مهمة لحماية القوات الروسية” (1).
وقد تمكَّن نشطاء سوريون معارضون من الحصول على صور وشهادات لسكان محليين في منطقة الساحل السوري، تفيد بوجود أعداد متزايدة من الجنود ومعدات روسية حديثة هناك.
ووفق المعلومات المتوفِّرة حتى تاريخه، فإن ما يُدعى بالتدخل الروسي، يتمثل بإنشاءات تمهيدية لاستقبال أفراد ومعدات في عدة مواقع، إضافة إلى كميات محدودة من العتاد الدفاعي والهجومي وبضع مئات من العناصر. وتتركز نشاطاتهم في القاعدة الروسية بميناء طرطوس، المستأجرة منذ الثمانينات لخدمة سفن الأسطول السوفيتي الخامس المنحل، وفي مطار حميميم قرب جبلة (باسل الأسد)، الذي يتألَّف من مطار مدني، وآخر عسكري صغير مخصص لسرب حوامات بحرية من نوع كاموف، وقد استقبل المدرج المدني أكثر من عشر طائرات شحن روسيَّة من طراز أنتينوف-124 الضخمة، التي أفرغت حمولاتها في المطار العسكري المجاور، ووفق المصادر المحلية تألَّفت الحمولة من دبابات تي 90 المتطورة، وقطع مدفعية، ونظام دفاع جوي قصير المدى من نوع بانتسير (إس إيه 22)، إضافة إلى أربعة أسراب طائرات قاذفة حديثة من طراز سوخوي.
وقد بدأت الطائرات الروسية في 20 سبتمبر/أيلول 2015 ضرباتها في سوريا مستهدفة مواقع للجيش السوري الحر حول حمص، فيما قالت وزارة الخارجية الروسية إنها مواقع لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” (2).
تمتد العلاقات العسكرية بين سوريا وروسيا إلى عقود؛ إذ يعتمد الجيش السوري على الأسلحة السوفيتية التي ورثتها روسيا، وقد عانت منظومة الطيران والدفاع الجوي السوري عقب نهاية الحرب الباردة من قصور شديد في الصيانة والتجديد، بسبب رفض روسيا استئناف التعاون العسكري إلا بعد تحصيل ديون الاتحاد السوفيتي المستحقة على سوريا؛ ما أجبر نظام بشار الأسد على تسديد أربعة مليارات دولار من الديون البالغة 12 مليارًا، على إثر قفزة استثنائية في أسعار النفط والإنتاج السوري منه سنة 2006، وتمَّ توقيع عقود جديدة في سنة 2008 تركزت حول صيانة العتاد الجوي وتعميره.
ولم يُلاحَظ أي دعم عسكري روسي استثنائي لقوات النظام في سنوات القتال الخمس الماضية، ولم تشاهَد أي أنواع أو أعداد جديدة في طائرات النظام المتناقصة، أو حتى ذخائر متطورة؛ الأمر الذي اضطر إيران لرفده بعدد من الطائرات العراقية التي لجأت إليها أثناء معركة عاصفة الصحراء سنة 1990. واضطرت القوى الجوية لاستخدام البراميل المتفجرة البدائية، وطائرات الكاموف المتخصصة بزراعة الألغام في عرض البحر لإلقاء هذه الألغام على الأحياء السكنية، بل واستخدام ذخائر جو/جو للطائرات الاعتراضية ميغ 25 لضرب أهداف أرضية.
الروس لملء الفراغ الجيوسياسي
انصبَّ اهتمام بوتين منذ عودته رئيسًا، على استعادة النفوذ الروسي بدائرته السوفيتية السابقة، وتكريس بلاده كلاعب عالمي مؤثر، وأدخل تعديلًا على العقيدة العسكرية الروسية العام الماضي، يتيح “مواجهة بؤر التوتر في العالم، واستخدام القوة العسكرية خارج إطار مجلس الأمن” (3). وقد لقيت هذه التوجهات ترحيبًا في أوساط القوميين الروس ومن حلفاء موسكو السابقين، وبعد مغامرة لم تتبلور نتائجها بعد في أوكرانيا، ها هو يتقدم بعيدًا عن حدود روسيا، إلى الشرق الأوسط الذي تنسحب منه الولايات المتحدة وأوروبا عسكريًّا وسياسيًّا، ويتنامى فيه نفوذ حليفته إيران، وتُبدي بعض دوله العربية رغبة في مساهمة روسية في حلحلة القضايا العالقة عبر موجة من الزيارات الاستثنائية الصيف الماضي، إضافة طبعًا إلى وضع بشار الأسد الحرج الذي يجعله قابلًا لأي نوع من التدخل وبلا قيد أو شرط.
إن وجود قواتها في سوريا هو الطريقة المثالية لموسكو من أجل تثبيت مكاسبها في دائرة نفوذها الأوسطية، وضمان عدم تحول الدول المرتبطة بها غربًا نتيجة أي ظرف أو منعطف، خاصة بعد التقارب الإيراني-الأميركي، كما يوفر لها هذا الانخراط القدرة على التأثير في عموم الشرق الأوسط، ذلك الإقليم بالغ الأهمية في قضايا السلم والأمن العالميين.
أمَّا مصالح روسيا الاقتصادية في سوريا، فهي غير ذات قيمة، والتبادل الاقتصادي بينهما لا يتجاوز اليوم نصف المليار دولار (4)، ولا تعوِّض استثمارات شركة “ستروس ترانس غاز” في سوريا تكاليف تدخل عسكري حتى في شكل محدود، فهي أنشأت معملًا للغاز في المنطقة الوسطى، وخط الغاز العربي، وتستكمل معملًا آخر للغاز شمال حمص، أمَّا الحديث عن اكتشافات نفطية وغازية في الساحل السوري، فهي شائعات قديمة بلا أي تأكيدات علمية.
أمَّا هدف روسيا المعلن من تدخلها وهو محاربة الإرهاب، فيقبع في ذيل قائمة دواعي الكرملين، إذ إن روسيا لم يلحقها حتى الآن أي تهديد إرهابي على خلفية ما يجري في سوريا، على العكس من ذلك، استقطبت الساحة السورية باعتراف نائب رئيس جهاز الأمن الاتحادي الروسي، سيرجي سميرنوف، نحو 2400 متشدد روسي، وهؤلاء لا يمثِّلون خطرًا إلا في حال عودتهم التي قد لا تحدث، والتدخل الروسي لا يلغي هذا الخطر، بل يُفاقمه ويُسرع بحصوله.
نظام الأسد: ضربة ثلاثية
حسابات النظام السوري معقدة ومتعددة المستويات على شاكلة أزمته، فهو يعاني من تراجع عسكري خطير، بعد أن فَقَد 80% من مساحة البلاد، بمعدل 20% سنويًّا. ويواصل أفراد المعارضة المسلحة تقدمهم مع ازدياد خبرتهم وأعدادهم، بينما يواجه جيشه تناقصًا متسارعًا في الكَمِّ والنوع، وتتهاوى معنويات حاضنته الشعبية التي بدأت بالتململ وإظهار الاستياء، كما حدث مؤخرًا في اللاذقية والسويداء. من ناحية أخرى، يبدو أن عائلة الأسد، والنخبة العلوية المقربة منها، إضافة إلى القطاع السنِّي الذي لا يزال يؤيده، يخشى من الهيمنة الإيرانية المطلقة، وخاصة من سعيها الحثيث لاصطناع كيان مذهبي مرتبط بها على شاكلة حزب الله اللبناني، وتخشى عائلة الأسد من مقايضة إيرانية تطيح بها بمقابل الحصول على حق رعاية وحماية العلويين والشيعة عبر ذلك الكيان والميليشيات التي أنشأتها، وتعد المظلة العسكرية الروسية في هذه الحالة ضمانة لها من السقوط أمام الثوار من جهة، وخيارًا بديلًا من الوقوع الكلي تحت نفوذ طهران وسياساتها البراغماتية المذهبية من جهة أخرى.
وفي المستوى الإقليمي، ربما وجد بشار الأسد، ومعه روسيا، أن ارتباطه بإيران وحلفها الشيعي هو العقبة الكأداء التي تجعل من عملية اختراق سياسي للصف المعادي له عملية مستحيلة، وأن تولي أمره من طرف روسيا، بما لها من ثقل دولي ونفوذ على بعض العواصم العربية، مع تواري إيران عن المشهد قليلًا، سيجعله مقبولًا، أو على الأقل سيفتح إمكانية الحوار معه عبر القناة الروسية، على أمل أن تغيِّر تلك القوى الرافضة له بشكل مطلق بعض مواقفها منه، وربما تقبله مجددًا.
واشنطن: اصطياد الدُّبِّ في المستنقع
لم تتدخل الولايات المتحدة الأميركية عسكريًّا في الصراع السوري لصالح الثوار خشية استيلاء الإسلاميين على السلطة وارتكاب مجزرة انتقامية بحق العلويين، وفضَّلت الضغط المتواصل لإجراء تفاوض يُفضي لانتقال سياسي يستثني بشار الأسد، وتبقى مؤسسة الجيش كضامن لحماية العلويين وبقية الأقليات، ويبدو أن ثمَّة تفاهمًا كان قائمًا مع الروس، يقضي بعدم دعم هؤلاء للنظام السوري بأية شحنات متطورة من الأسلحة، بمقابل التزام الولايات المتحدة بمنع وصول أسلحة نوعية للثوار، مثل مضادات الطائرات التي دافعت واشنطن بحزم ضد توريدها للثوار، وبدورها لم تسلِّم روسيا للأسد أسلحة أو ذخائر غير التي كانت ملتزمة بتقديمها قبل الثورة.
ويبدو أن الروس يحاولون البناء على الرغبة الأميركية ببقاء النظام، مع تعديل جوهري هو بقاء بشار الأسد في السلطة لمدةٍ ما، ويُفهم من تصريحات وزير الخارجية الأميركية كيري الأخيرة أن بلاده قد تقبل ذلك، لكنها لم تغير موقفها الرسمي المعلن منذ بداية الثورة السورية وهو أن الأسد ليس جزءًا من مستقبل سوريا. وهو ما أكَّده مرة أخرى الرئيس باراك أوباما في خطابه في الذكرى الـ70 للأمم المتحدة، ووصف بشار الأسد بالطاغية و”بأنه الجاني الرئيسي في الحرب السورية التي قُتل فيها على مدار السنوات الأربع مئتا ألف شخص على الأقل إضافة لملايين المشردين” (5).
أيضًا يبني الروس على إشارات عربية إلى أن مردَّ عدائهم للنظام والإصرار على إسقاطه هو ارتماؤه المطلق في الحضن الإيراني، وهو تحالف لا يمكن للأسد أن يتخلَّى عنه في الظرف الراهن ما لم يتوفر بديل قوي وملتزم بحمايته، وهو الدور الذي يتطلع الروس للعبه، وإحداث تغيير في المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط، يجعلها المقرر الأساسي فيه.
من حيث المبدأ، ليس لدى البيت الأبيض ما يقلقه من دخول الروس وغوصهم في المستنقع السوري وقضاياه العويصة، وربما سيكون تدخلهم المباشر مناسَبَة لتحميلهم التبعات السياسية والعسكرية والأخلاقية لتدهور الوضع هناك، وسيَلْفِت الانخراط الروسي أنظار الإسلاميين، ويستحوذ على نصيب من اهتمامهم ونشاطهم الدولي الذي يتركز اليوم على استهداف الولايات المتحدة وأوروبا، وفي الوقت عينه سيراقب البيت الأبيض انتهاكات متوقعة للروس في حربهم، واستثمارها في الضغط السياسي في كافة المسائل الخلافية بينهما، عبر لعبة تبادل أدوار في مجلس الأمن، لا تبذل الولايات المتحدة خلالها مجهودًا أكثر من رفع بطاقة الفيتو الحمراء، كما فعلت موسكو طوال سنوات الثورة السورية الخمس، وترك الدبِّ الروسي يعاني مقيَّدًا في المستنقع شرق الأوسطي حتى تخور قواه.
دول الخليج العربي على المحك
ستتحمل الدول العربية الداعمة للثورة السورية كالسعودية وقطر، عبئًا كبيرًا في هذه المرحلة، فالتصريحات العدائية الروسية تعبِّر عن نوايا مضمرة لفرض إرادتها في الإقليم بالقوة، ولا تشجِّع على الاعتقاد بوجود تفاهم مسبق أو محتمل مع تلك الدول، التي لا يمكنها أن تخضع للخطة الروسية، وقد تذهب الأمور إلى تصعيد يبلغ حافة الهاوية، أو إلى مواجهة دامية بالوكالة، عبر دعم تلك الأطراف لعشرات الكيانات المسلحة السورية، أو غضِّ النظر عن دعمها، لإلحاق ما لا يحصى من الطعنات بالقوات الروسية، واستنزافها حتى الوهن. وعلى عكس ما قد يتوقعه بوتين من اضطرار تلك الدول لتحسين علاقاتها معه، فإن تحركه الحالي سيدفع دول الخليج تحديدًا إلى إنعاش تحالفها التاريخي مع الولايات المتحدة باعتبارها الحليف الأكثر قوة وموثوقية.
وباستثناء مصر الراغبة في ليِّ الذراع التركية، وإرغام الولايات المتحدة على الاعتراف بحكومة الانقلاب، وباستثناء حلفاء إيران بالعراق، وعلى رأسهم نوري المالكي، الذين يريدون الاستقواء بالوجود الروسي في الجوار، لا توجد دول عربية مستفيدة بشكل مباشر من ذلك الحضور.
إيران: التَّقيَّة الروسية إلى حين
لابد أن الحكومة الروسية قد تفاهمت مع إيران قبل أن تتخذ قرارها الذي سبقته زيارة قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني إلى موسكو، وربما تشاطرها الاعتقاد بأن لا نجاة لنظام الأسد ما دام محسوبًا على حلفها المذهبي، ولإنقاذه لابد أن تتوارى قليلًا مُفسحة المجال للروس لتصدر المشهد، لكنها بالتأكيد غير غافلة عن كون النقاط التي سيسجِّلها الروس هناك هي على حسابها، ولابد أن الطرفين اتفقا على نوع من التقاسم الوظيفي على الساحة السورية، بحيث تواصل إيران تنمية قطاع الميليشيات المرتبط بها، ولكن بعيدًا عن الأضواء، بينما تتولى روسيا ترميم الجيش النظامي وإعادة تأهيله. لكن منطق الصراع على النفوذ في الحيز السوري الضيق، سيقود حتمًا إلى تدافع أو تصادم بين القوتين، بيد أن طهران ستصبر ولا شك حتى ينجلي غبار المعركة، فإن انتصر الروس تقوَّت بهم على الإقليم كله، وإن هُزموا ومعهم الأسد، فإن خيارها البديل المتمثل بالميليشيا الطائفية، سيكون جاهزًا.
إسرائيل مستبشرة وتركيا محرجة
إسرائيل الرابح الصامت من الزلزال السياسي الذي أصاب المنطقة، سيستمر موسم جنيها الأرباح بلا عناء، ولن تسمح، بما لديها من نفوذ في الكرملين والعالم، بمرور المخطط الروسي دون ثمن، وقد تأكدت، وبشكل معلن، من أن نظام الأسد وإيران وحزب الله سيذعنون لشروطها منذ الآن فصاعدًا عبر التواجد الروسي، الذي سيشكِّل أيضًا جدارًا فاصلًا بينها وبين الأخطار المحتملة من إسلاميي سوريا إلى مدى غير محدد.
موقف تركيا هو الأسوأ، فهي عرضة لمواجهة بين روسيا والناتو على حدودها الجنوبية، ويتهددها خطر تطاير شرر الصراع مع المتشددين، علاوة على صراعها الذي عاود التفجر مع الأكراد، في ظل عدم استقرار سياسي ناجم عن نتائج الانتخابات الأخيرة، وقد تجد نفسها مضطرة لتقديم تنازلات كالتي قدمتها مؤخرًا حين أتاحت قواعدها الجوية لطائرات التحالف الدولي التي تقصف داعش في سوريا والعراق.
الكماشة السورية
لا يُستشف من ردِّ الفعل الأميركي حتى اليوم، أنه يميل إلى ردع التدخل الروسي، أو أن أوباما سينتهج سياسة أكثر إقدامًا على الصعيد الدولي في آخر أيام حكمه، كما أن النظامين السياسيين: العربي والإقليمي أضعف من أن يواجها طموحات بوتين الإمبراطورية، وسيبني الجميع آمالهم على صمود الفصائل الثورية السورية، وعلى الضربات التي سيُنزلها المقاتلون الإسلاميون بروسيا وقواتها، التي ستقاتل في بيئة معادية ومعقَّدة يحتاج العمل فيها أساليب وأدوات الحرب الناعمة التي لا يتقنها الروس، وستكون وضعيتهم أشبه بالحالة السوفيتية في أفغانستان.
سيعمل الروس على ترميم ما تبقى من جيش النظام، وقد تضطلع قواتهم مستقبلًا بدور رأس الحربة لفتح بعض المناطق أمام تقدمه، لكن هذه المهمة ليست سهلة، بل قد لا تكون واقعية أصلًا، فالقوى التي ستواجهها على الساحة السورية تعمل وفق استراتيجية البؤر المتعددة، وستواجه الآلة الروسية الضخمة نوعًا من حرب الأشباح، ولابد أن يلحق بها بعض الهزائم والانتكاسات، التي ستنعكس سلبًا على جيش النظام، فيفقد ما تبقى من ثقته بنفسه وبالروس معًا. وفي ظل منافسة إيرانية على عناصر النخبة في القطاعات المؤيدة للنظام واستقطابها بشتى الإغراءات، ستبدأ المرحلة الأخيرة من مراحل تسرب وذوبان جيش النظام، لتواجه القوات الروسية المهمة منفردة، خاصة مع ما يبدو أنه إصرار روسي على بقاء الأسلحة المتطورة تحت سيطرتهم، وفي هذه الأثناء أيضًا قد تنخرط كتلة الجيش، والقطاع السنِّي من مؤيدي النظام، في تدافع وربما صراع مع اللوبي الإيراني، مدشنة شرخًا عميقًا في كتلة النظام المتماسكة حتى اليوم.
أمَّا فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية الوطنية فإنها ستتلقى الضربة الأعنف للآلة العسكرية الروسية الوافدة، فهي التهديد الأخطر للنظام كونها تطرح نفسها بديلًا سياسيًّا مقبولًا له، وسيتركز عمل الروس على محاولة سحق هذه الفصائل، أو إرغامها على التفاوض من موقع ضعيف لفرض تسوية لصالح حليفها الأسد.
وتقتضي مواجهة هذا التحدي توحيدًا ممكنًا للفصائل العسكرية ودمج قياداتها السياسية في موقف وطني واحد هو مقاومة الغزو الروسي، الذي يؤمِّن لها الشرعية الضرورية، والدعم المناسب من حلفائها.
الضربات الأولى التي ستتلقاها هذه الفصائل ستكون بمثابة الصدمة لدفعها للانهيار السريع، لكن قدرتها المتوقعة على استيعابها بحكم خبرتها الطويلة، ستُفضي مع مرور الوقت إلى تحول المواجهة لنوع من الاشتباكات الروتينية المعتمِدة على حرب الأفراد، ويتراجع دور الأسلحة الاستراتيجية، وهو ما سيُرغم الروس، في أحد الاحتمالات، على جلب المزيد من المقاتلين، وسقوط المزيد من القتلى بين صفوفهم، في حرب عصابات يصعب حسمها أو إيقاف النزيف الذي تسببه سوى بالانسحاب من الميدان.
أمَّا الفصائل الجهادية السلفية العابرة للحدود، فإن روسيا قد تشنُّ عليها عمليات استعراضية منذ البداية لحيازة الشرعية في قتالها للفصائل الوطنية الثورية منها والإسلامية، وستكتفي غالبًا بانتزاع هدف إعلامي كبير، قد تعقبه على مراحل عمليات استعراضية قليلة الكلفة، كإنزال مظليين في منطقة غير محصنة في قلب مناطق سيطرة تنظيم الدولة أو جبهة النصرة، اللتين ستسعيان بدورهما لاستثمار الهجمة الروسية في تجييش مؤيديها حول العالم، وتصعيد خطابها التحريضي الكوني، واستقطاب المزيد من الدعم المادي والبشري، في وقت لن تكون هناك رقابة دولية صارمة على تدفق ذلك الدعم ما دام يستهدف روسيا المتمردة والخارجة على التفاهم الدولي.
وستشهد المراحل العليا من الصراع، نوعًا من التحالف بين الفصائل الإسلامية المتناحرة، أقله نوع من الهدنة، وذروته عمليات اندماج عسكري وسياسي بين الفصائل ذات الخلفية الأيديولوجية الواحدة.
لكن هناك احتمال آخر بأن يتفادى الروس القتال البري لأنه خطأ استراتيجي فادح، فلا مصالح منظورة أو متوقعة تبرر إرسال جنودها ليقاتلوا ويُقتلوا في بلاد بعيدة، ستنجذب إليهم بالمقابل الذئاب الجهادية المنفردة، وشبكات الأشباح القاتلة، التي ما زال تاريخ الصراع المكلِّف معها ماثلًا في ذاكرة الشعب الروسي. وليس من السهل تصور أن ترسل موسكو الآلاف من جنودها إلى سوريا وهي التي طالما حذَّرت وأنذرت من التدخل العسكري هناك، ولا أحد يتوقع أيضًا أن تسمح الولايات المتحدة لغريمها الأول بالنجاح وتحويل مغامرته العسكري إلى مكاسب سياسية مستقرة.
وفي هذه الحالة، يمكن تخيل سيناريو مختلف محسوب بدقَّة ومتفق عليه مع أكثر من طرف، على غرار التصعيد الأميركي والانكفاء الروسي عقب استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي، الذي انتهى بتسليم النظام لذخائره القاتلة، مع ضمان بقائه فترة أطول.
أمَّا إذا كان القرار خطوة أحادية ومرتجَلة من جانب الكرملين، فليس أمام بوتين إلا أن يمضي في مغامرته قدمًا، ليقع في الفخِّ الاستراتيجي، الذي نصبه لنفسه.
خاتمة
في كل الأحوال سينعم بشار الأسد بالبقاء في الحكم لمدَّة أطول تحت المظلة العسكرية الروسية، التي سيؤدي تطبيق عقيدتها القتالية، المعروفة بالتدمير الناري العشوائي، وعدم اعتبار حقوق الإنسان، إلى اختفاء ما تبقَّى من البنية التحتية في البلاد، وارتكاب مجازر مروعة بحق المدنيين السوريين. وبطبيعة الحال ستنتهز الولايات المتحدة والغرب فرصة الانتهاكات لإدانة النظام الروسي وتقييد تحركاته العسكرية، بحيث تبقى دون عتبة الإنجاز الملموس، ودفعها إلى المصير الذي تنبَّأ به أوباما وهو فشل الاستراتيجية الروسية في سوريا.
عبد الناصر العايد- مركز الجزيرة للدراسات
لا يوجد وسوم لهذا الموضوع.